هل الإلحاد أو الزندقة بحدّ ذاتهما نوع من التطرّف؟ أم هل يكمن التطرّف في الاصرار على التعبير عنهما بكل صراحة ووضوح وعلانية وبغض النظر عن ردود الأفعال؟
قد يبدو الجواب سهلاً للوهلة الأولى، لكنّا لا نعيش في عصر الإجابات السهلة، بل يبدو أن هذا العصر هو محض خيال. فالمشكلة الحقيقية تكمن في أن التغيير، خاصة التغيير الاجتماعي والقيمي، لم يطرأ عبر التاريخ إلا كنتاج عملي للعبة الصدمات المريرة وردود الأفعال عليها. فالتغييرات الاجتماعية الجذرية لا يمكنها أن تحدث إلا نتيجة تحدّيات جوهرية وعلنية للقيم السائدة ونتيجة الاستقطابات والصدامات الخطيرة التي ولّدتها هذه التحديات على أرض الواقع.
وللحوار، والتفاوض، والاتفاقات المرحلية، وغيرها من وسائل التواصل وإدارة الأزمات، دورها المؤثّر هنا، لكن، كذلك الأمر بالنسبة للتحريض، والتهييج، والاستفزاز، على مرارة عواقبها. فالتطرّف، في خاتم المطاف، أداة فعّالة في يد قيادات فئوية معينة في سعيها إلى توسيع رقعة نفوذها وتضخيم حصّتها من المغانم كجزء من صراعها مع الفئات الأخرى.
لذا، وضمن هذه الرؤية للأمور، يمكننا القول بأن الساعة قد أزفت لكي يفرض التطرّف العلماني نفسه على الساحة، تماماً كما فعل ويفعل التطرّف الإسلامي.
وعلينا أن نذكر هنا أن الحوار لايحدث إلاّ بين أطراف عقلانية بهدف البحث عن حقيقة ما مشتركة أم لا، أم ما يحدث في أغلب الأحيان باسم الحوار هذه الأيام، بل وعبر التاريخ، فلا يعد عن كونه تفاوضاً وتحاصصاً، وهذا يتطلّب السعي نحو إيجاد توازن معيّن في القوى لكي تأخذ العملية التفاوضية مجراها.
إن بروز الفكر العلماني في المنطقة في القسم الأول من القرن العشرين، جاء في طور انحسار عام للفكر الديني، في شكله التقليدي على الأقل، لذا، فهم لم يؤدي إلى حدوث صدام حقيقي بين الفكرين. وكذلك الأمر بالنسبة لعودة الفكر الديني إلى الساحة في القسم الثاني من القرن الماضي، فلقد جاءت في ظل اندحار الأنظمة العلمانية وتحوّلها إلى أنظمة فئوية استبدادية، مما حدا بهذه الأنظمة إلى تفادي الاصطدام فكرياً مع التيارات الدينية لتسهيل عملية قمعها على الصعيدين السياسي والعسكري. ولقد سمحت هذه السياسة للتيارات الدينية الأكثر ظلامية بالسيطرة على شرائح اجتماعية واسعة، في حين قامت المتغيّرات الدولية بدورها بتسهيل عملية تحوّل هذه التيارات إلى لعب دور الناطق "الرسمي" المعبّر عن الاحباطات المختلفة للمنطقة وشعوبها، بصرف النظر عن المدى الحقيقي للتطابق ما بين تطلّعات هذه التيارات والتطلّعات الفعلية لشعوب المنطقة.
وما لم ترتقي التيارات العلمانية إلى التحدّي، فإن هذا الفشل سيؤدّي وبكل سهولة إلى استمرار عملية الانحلال المجتمعي التي نشهدها حالياً في الكثير من دول المنطقة، وسيكون لهذا التطوّر نتائجه الكارثية على شعوبها. فأي نوع من الانجازات الحضارية يمكن أن تفرزها شعوب تسيطر على ثقافتها عقلية وهابية؟
أما إنجازات العقلية العلمانية فهي في كل مكان.
Recent Comments