وتضيف الصحيفة (والحديث هنا يتعلّق بنشر كتاب مصوّر جديد لمؤلّف دنماركي) أن الرسومات المذكورة تقدم "تشويهاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فإحداها على سبيل المثال تصوره وهو يتأمل تعذيب اليهود في المدينة المنورة وهم يتألمون، وأخرى له مع عائشة رضي الله عنها، وثالثة، تظهره على البراق في الإسراء والمعراج، ولم يكن البراق لدى الرسام والكاتب سوى حصان بجناحين ورأس امرأة، ورابعة، في غار حراء ويبدو فيها جبريل عليه السلام بجناحين أيضاً... وما إلى ذلك من رسومات هدفها تشويه صورته صلى الله عليه وسلم". العربية
هل يحقّ للآخرين أن يبحثوا في تاريخنا المقدّس ويستخلصوا النتائج التي يروها "صحيحة" من وجهة نظرهم، وإن كانت تتعارض جذرياً مع آرائنا ونتائجنا الخاصة المتعلّقة بقدسية هذا التاريخ؟
وهل يحقّ لهم أن يعبّروا عن نتائجهم وآرائهم بالوسائل التي يرونها مناسبة، وإن كنا لا نراها كذلك؟
وهل يحقّ لهم أن يسخروا من معتقداتنا؟ وأن يعبّروا عن سخريتهم هذه وبكل وضوح وصراحة؟
الجواب: نعم ونعم ونعم. لقد أعطينا الناس كل هذه الحقوق منذ أعلنا أن الإسلام دين دعوة.
بل وحتى وإن لم نعلن ذلك، يبقى البحث في تاريخ الإنسانية حقّ لجميع البشر، بغضّ النظر عن طرق تعاملهم مع هذا التاريخ وعن ميولهم الإيديولوجية المسبقة والنتائج التي قد يخلصون إليها. وفي الواقع، لقد أعطى المسلمون لأنفسهم ذات الحقوق عبر تاريخهم وحتى اللحظة الراهنة، والمكتبات الإسلامية والصحف اليومية في المنطقة مليئة بالأدلّة على صحّة هذا الادعاء.
مفارقات:
المسلمون على أتم الاستعداد لأدانة الشعب الدنماركي بأسره من أجل أفعال حفنة من الأشخاص، ولكنهم يرفضون أن يدينهم العالم بسبب أعمال حفنة من الإرهابيين. وإن كان الشعب الدنماركي قد أبدى تعاطفاً مع رساميه، فالشوارع العربية والإسلامية سبق وأن أبدت تعاطفها أيضاً مع "إرهابييها."
إن الكيل بمكيالين عادة سيئة عند كل البشر فيما يبدو، لأن عملية الكيل هنا لا تستند أبداً إلى معايير حيادية بل إلى معايير المصالح المتغيرة والمتطورة باستمرار.
من ناحية أخرى، يبدو قرار مقاطعة البضائع الدنماركية، وبصرف النظر عما إذا كان يستند إلى استنتاجات صحيحة أم لا، أكثر إقناعاً وتحضّراً كردة فعل إزاء هذا الأمر. لكن تبنّي هذا الموقف يدلّ على وجود اختلاف جوهري في القيم والقناعات بين الطرفين.
فالطرف الأول يفضّل أن يضع حرية الرأي والتعبير في المقام الأول بناءاً على كون صوت الشعب هو صوت الله، بينما يحجز الطرف الثاني هذا المقام لقدسية قناعاته الخاصة على أساس أن صوت الله، في معتقداته، يبقى دائماً فوق صوت البشر.
وفي ذات الوقت، لا يخجل أئمة الظلام في الجوامع الغربية، بما فيها بعض من مساجد الدنمارك، أن ي
ستغلّوا حرية التعبير المتوفّرة هناك لكي يبثّوا سمومهم الخاصة. ولعلّ الظلامي المعروف أبو حمزة خير مثال على ذلك. مرة أخرى الكيل بمكيالين استناداً على المعايير والمصالح الخاصة للطرف الكائل.
وبالعودة إلى الكتاب المذكور أعلاه، ربما كان من المجدي أن ننوّه هنا على أن الكتاب يهدف إلى التعريف بالإسلام، من وجهة نظر غير محايدة ربما، ولكن بالاستناد إلى حوادث تاريخية مذكورة في "أمهات" المصادر الإسلامية، كمذبحة بني قريظة مثلاً. وإذا كان تاريخ المسلمين، بما فيه ذلك القسم المقدس منه، يذخر بأحداث ينعكس بعضها سلباً على الإسلام، فأن محاولة التملّص من المسئولية عن هذه الأحداث من خلال الادعاء أن رسومات الكتاب بحد ذاتها تهدف إلى "تشويه صورته صلى الله عليه وسلم"، تنمّ عن جبن وخبث شديدين. مرة ثالثة الكيل بمكيالين استناداً على أن قلّة من العرب والمسلمين فقط يمكن لهم الاطلاع على الكتاب المؤلّف بالدنماركية.
أما أن يتنطّع مسئول سوري، وبالتحديد الوزيرة بثينة شعبان، وينذر العالم بأن هولوكوست (2) تعد ال
يوم ضد المسلميبن في أوروبة، فهنا تتجلّى سياسة الكيل بمكيالين بأوضح حِلَلِها. إذ كيف يمكن لممثلة لنظام شمولي وإجرامي كالنظام السوري الذي سبق له وقتل عشرات الألوف من المسلمين من أبناء بلده، غير أولئك الذين تمّت تصفيتهم بشكل مباشر وغير مباشر في لبنان، أن تتكلّم بأي مصداقية عن الاضطهاد؟
لكن للنظام السوري مصلحة واضحة في هذه المرحلة تستدعي، من ناحية، أن يتمّ تجييش المسلمين، السنة منهم على وجه الخصوص، لصالحه ، في حين يتمّ لفت أنظار العالم، من ناحية أخرى، إلى مدى خطورة التيار الديني في المنطقة وإلى ضرورة الحفاظ على النظام السوري، إن لم نقل دعمه، كحاجز رادع في وجه انتشار التيار الأصولي المتشدّد في المنطقة.
مرة رابعة إذاً، يتم الكيل بمكيالين من أجل مصالح فئوية ضيقة، لنظام متهالك.
وإن كان المسلمون، على حد تعبير شعبان، "ليست لديهم عقدة الذنب للتكفيرعنها تجاه الشعوب الأخرى،" فهذا الواقع هو في الحقيقة جوهر مأساة المسلمين المعاصرة: أنهم لا يحسّون بالآخر، ولا يحترمون حقوقه، ولم يجرؤا بعد على القيام بمراجعة وبتقييم شاملين وحقيقيين، خاصة على المستوى الشعبي، لتاريخهم المقدّس لكي يتحرّوا مواقع الخطأ فيه، ويواجهوها.
وفي هذا قمة التهرّب من الواقع والكيل بأكثر من مكيال. وفي هذا الموقف أيضاً تتبدّى لنا الفجوة الحضارية التي تفصل العرب والمسلمين عن العالم في أوضج تجلّياتها، فهم يريدون للآخرين أن يحترموهم ويحترموا حقوقهم ومبادئهم، لكنهم لم يقوموا بعد بتبنّي أي من تلك المواقف التي يمكن لها أن تمهّد لحدوث ذلك، فهم ما زالوا عاجزين عن ابداء ذات التفهّم الذي يطالبوا الآخرين به. (هناك استثناءات لهذا الموقف بالطبع، لكنها تبقى فردية الطابع.)
إن التجربة الاستعمارية التي تعرّض لها المسلمون خلال القرن الماضي، وفي بعض الحالات خلال القرون الماضية، والتمييز الذي تتعرّض له الجاليات المسلمة في الغرب اليوم، وانتشار الأنماط المقولبة المتعلّقة بالمسلمين في الصحف العالمية، لا يمكن لها أن تعفي المسلمين من القيام من مواجهات من هذا النوع.
لقد أصبح هذا التهرّب ممجّاً إلى أبعد حدود، و هو السبب الأساسي لقوى العطالة في مجتمعنا والتي "تجذب" الآخرين إلينا بنفعهم وضررهم، وربما يكون الضرر أكبر في الواقع.
إذ عندما يقوم الغرب بالكيل بمكيالين ويؤدي ذلك إلى حالة تصادمية له مع واقعنا، فإنه يفعل ذلك لصالح قوى وتفاعلات حركية خاصة فيه، أما نحن فنقوم بذلك لصالح قوى العطالة فينا. وبالتالي يتغير هو متعثّراً نحو الأمام، أما نحن فلا نتعثّر إلا نحو الوراء، وذلك باستثناء بعض الحالات الفردية.
Recent Comments